المله
تأليف / طائر النار
ولدت في منطقة باب الشيخ وسط الازقة الضيقة التي تميزت عن باقي مناطق بغداد بسحرها وبلون ازقتها الاصفر المشبع برائحة التراب المندى مع انواع الاصوات التي تنبعث من شناشيلها القديمة .
تربيت في بيت بسيط فابي كان يكدح ليجلب لنا لقمة العيش التي تسد رمقنا فقد كان سقاءً يحمل قربته صباحا ويتجه الى نهر دجلة القريب من منطقتنا ليملئ قربته بالماء ليبيعه في مناطق باب الشيخ وشارع الرشيد والحيدر خانة التي ضلت معالمها القديمة ومحلاتها في ذاكرتي ولن تمحى ابداً .
عندما اشرق ربيع عمري الخامس اصطحبتني والدتي الى ( المله ) اي المعلم ليعلمني ويعلم صبيان محلتنا القراءة والكتابة وقراءة القرآن وتلاوته .
دهشت عندما رأيته للمرة الاولى وهو ذو لحية طويلة تغلغل الشيب فيها ليعطيها من الجمالية الكثير،فقد كان يرتدي زياً اشبه بزي رجال الدين وعقالا اكل الدهر عليه وشرب ويحمل في يده خيزرانة بطول صبي صغير .
ودعتني امي من خلف ( البوشي ) الذي غطا وجهها وسط هذا المأزق الرهيب فكان منظر الخيزرانة مخيفا وقد سمعت من ابناء محلتنا الكبار ان ( المله ) كان يضرب بها كل صبي لا يجيب على سؤاله . وقلت في نفسي: ( لقد وقع الفأس بالرأس ) ومع هذه الكلمات بدأ قلبي يخفق بقوة لا مثيل لها فلا مجال للهروب لاني كنت جالسا في الصف الاول بالقرب من ( المله ) فبدأت بذلك رحلة الرعب من خيزرانته فرحت اراقب كل حركة من حركاته وكلما حرك خيزرانته قفزت من الرعب .
انتبه المله الى ذلك فاخذ يرمقني بنظرات زادت الطين بلة فكلما فرأ نصا قرآنيا نظر الي دون الصبيان وطلب من الجميع ان يرددوا ما قرأه . وفي هذه الاثناء اخرج احد الصبيان صوتا غريبا من فمه دون ان يشعر فرمقه ( المله ) بنظرة لو نظرها الي لما حضرت حلقات درسه ابدا وقال له: ( اتسخر من درس القرآن والله لاعلمنك كيفية احترام القرآن ) .
فامر اطول صبيين من حلقتنا بالنهوض ليثبتا له رجل هذا الصبي بحبل ليعاقبه على هذه الجريمة وفي نفس اللحظة حضر الصبيان اليه فأمر الصبي بالنهوض ليحضر الى جنبه فحضر دون مناقشة الا ان بكاءه ابكانا معه . فطُرح الصبي ارضاً وثبت الصبيان رجليه فاخذ المله بضربه على قدميه بقوة سألت والدي فيما بعد عن تسمية هذه العقوبة فأسماها ( الفلقة ) .
ترك المله الطفل بعد ان جعل من رجليه حقل طماطم لحمرتها الشديدة .
بعد ذلك اكمل المله درسه القرآني بصورة طبيعية وكأن شيئاً لم يكن .
خرج المله من غرفة الدرس فخرجنا بعده راكضين الى بيوتنا بجنون فدخلت الى البيت فرأيت امي تطبخ لنا مرقة الفاصوليا التي لطالما احببتها فرحت اصرخت بصوت عالٍ : ( لن اذهب الى المله مرة اخرى ) فكررتها عدة مرات ودخلت الى غرفتي فلم اخرج منها الا في اليوم التالي ذاهباً الى ( المله) بعد ان علمت من والدي ان المله لا يضرب سوى الاولاد المهملين والمشاغبين فقط فاخذت اجتهد في درس القرأن فأخذت الجائزة الاولى بعد ان حفظت (جزء عم) في اسبوع واحد فقط.
مع تحياتي / طائر النار