بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
قال الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم:1، 2].
قال الإمامُ ابن القيِّم -رحمه الله- في كتابه المُستطاب " التبيان في أقسام القرآن ":
( والمُقسَم عليه بالقلم والكتابة في هذه السُّورة: تنزيهُ نبيِّه ورسوله عمَّا يقول فيه أعداؤه، وهو قوله تعالى: ﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾.
وأنتَ إذا طابقتَ بين هذا القسم والمقسم به؛ وجدتَّه دالاًّ عليه أظهر دلالة وأبينها:
فإنَّ ما سطَّر الكاتبُ بالقلم من أنواع العلوم الَّتي يتلقَّاها البشر بعضهم عن بعض: لا تصدرُ مِن مجنون، ولا تصدرُ إلا مِنْ عَقْلٍ وافر؛ فكيف يصدر ما جاء به الرَّسول مِنْ هذا الكتاب الَّذي هو في أعلى درجات العلوم، بل العلوم التي تضمَّنها ليس في قُوَى البشر الإتيانُ بها، ولا سيَّما مِنْ أُمِّيٍّ لا يقرأ كتابًا، ولا يخطُّ بيمينه، مع كونه في أعلى أنواع الفصاحة، سليمًا مِنَ الاختلاف، بريًّا مِنَ التناقض، يستحيل مِنَ العُقلاء كلِّهم لو اجتمعوا في صعيد واحدٍ أنْ يأتوا بمثله، ولو كانوا في عقل رجل واحد منهم؛ فكيف يتأتَّى ذلك مِنْ مجنون لا عقلَ له يميِّز به ما عسى كثيرٌ مِنَ الحيوان أنْ يُميِّزه، وهل هذا إلا من أقبح البهتان وأظهر الإفك؟!
فتأمَّلْ شهادة هذا المُقسم به للمقسم عليه، ودلالته عليه أتمَّ دلالة.
ولو أنَّ رجلاً أنشأ رسالةً واحدةً بديعة، منتظمة الأوَّل والآخر، متساوية الأجزاء، يُصدِّقُ بعضُها بعضًا، أو قال قصيدة كذلك، أو صنَّف كتابًا كذلك؛ لشهد له العُقلاء بالعقل، ولما استجاز أحدٌ رَمْيَه بالجنون، مع إمكان -بل وقوع- معارضتها ومشاكلتها والإتيان بمثلها أو أحسن منها؛ فكيف يُرْمى بالجنون مَنْ أتى بما عجزت العقلاءُ كلُّهم قاطبةً عن معارضته ومماثلته، وعرَّفهم مِنَ الحقِّ ما لا تهتدي عقولهم إليه؛ بحيث أذعنَتْ له عُقول العقلاء، وخَضَعَتْ له ألبابُ الأولياء، وتلاشَتْ في جَنْبِ ما جاء به؛ بحيث لم يَسَعْها إلا التَّسليم له والانقياد والإذعان، طائعةً مختارةً، وهي ترى عقولها أشدَّ فقرًا وحاجةً إلى ما جاء به، ولا كمالَ لها إلا بما جاء به... ) .