تحياتي للجميع المهتمين بالادب الفرنسي وخصوصا طلبة قسم اللغه الفرنسيه المرحلة الثالثه
اخواني هذه الدراسه قام بها الاستاذ عبد الرزاق الاصفر وهي تطابق منهاج مادة الشعر
للمرحلة الثالثه قسم اللغه الفرنسيه وان شاء الله تستفيدون منها في دراستكم حيث انها كتبت باللغه العربيه
وقد نضيف اليها بعض الابحاث من هنا وهناك
وستتضمن الدراسه بعض النصوص الشعريه التي ترجمها شعراء معروفين
اخواني ساقدم لكم الدراسه على اجزاء وراح ابدي وياكم بالجزء الاول ويتحدث عن المدرسه الكلاسيكيه pleiadde
اتمنى لك متعه القراءة
تحياتي اخوكم حكيم العراقي------------------
الجزء الاول
------------------المذهــب الكلاسّـــيكيّ
"الاتباعـــي" 1
-التعريف والاصطلاح:
المذهب الكلاسيكيّ classicisme أول مذهب أدبيّ نشأ في أوربا في القرن السادس عشر بعد حركة البعث العلميّ. وقوامه بعث الآداب اليونانية واللاتينية القديمة ومحاولة محاكاتها، لما فيها من خصائص فنية وقيمٍ إنسانية. ولدى العودة إلى هذه الآثار القديمة أخذ العلماء يحللونها ليستنبطوا مبادئها وخصائصها التي ضمنت لها الخلود، وذلك إمّا بالتذوق أو بالتحليل المباشر، أو بما كتبه المنظرون القدماء أمثال أرسطو في كتابيه "الخطابة" و"الشعر" وهوراس في قصيدته المطولة "فن الشعر".
أما لفظ "كلاسيّك" فهو مصطلح عائم المعنى، قليل التحديد، وعلى الرغم من شيوعه لا يمكن ربطه بزمن دقيق ومكان معيّن وخصائص حاسمة، لكنه يَعني بشكلٍ عام كلَّ عملٍ عظيم وجميل، خضع للتطوير والتكامل سنين طويلة حتى بلغ غاية الإتقان. وبتعبير آخر، يعني كلَّ عمل أجمعت العصور على جماليّته. وهذا التعريف، كما ترى، يوقع في كثير من الارتباك والتشويش والتعارض.. وإذا شئنا الاقتراب من المفهوم الشائع للمذهب قلنا: إن الكلاسيكية هي التعبير عن الأفكار العالية والعواطف الخالدة بأسلوب فنّيٍ متقنٍ روعي فيه النظام والدقة والابتعاد عن كل ما هو غريزي وبدائي وغير منضبطٍ بقواعد وقوانين.
ولم يظهر هذا الاصطلاح إلاّ في القرن التاسع عشر، فأول ما ظهر في إيطاليا عام 1818 ثم ما لبث أن شاع في أقطار أوربا خلال مدة لا تزيد عن عشرين عاماً. هذا في مجال الدراسات والنقد، أما في مجال الممارسة فقد كان الاتجاه موجوداً منذ القرن السادس عشر، بل قبله، لكنْ دون استعمال كلمة الكلاسيكيّة.
أما اشتقاق المصطلح فيعود إلى لفظ "كلاسّ Classe" ويعني الصّنف، أو الصفّ في المدرسة. وكان لفظ "كلاسيك" يعني الشيء المدرسيّ، أو يُطلق صفةً للأديب الذي تدرّس آثاره في الصفوف والكلّيات، كالأدباء المرموقين الذين كان ينظر إليهم في القرن الثامن عشر على أنهم نماذج عالية جديرة بأن يحتذيها الجيل الجديد. وبذلك تطورت دلالة كلمة "كلاسيك" فأصبحت تحمل معنى الأفضل والأكمل والممتاز، أي إن الأدباء المذكورين كانوا يعتبرون منتمين إلى طبقة كبار الشعراء اليونانيين واللاتينيين. ثم تطوّرت هذه الدلالة فأصبحت عَلَماً على مذهب معيّن، أو أسلوب، أو مدرسة لها سماتٌ شاملة، لكنها تسمح بوجود تنوعات واختلافات في داخلها وكانت مدام دوستايل M.me de staél الناقدة الفرنسية الألمانية من أوائل من أوضح سمات هذه المدرسة وذلك في كتابها: "من ألمانيا De l,allemagne"
ولا بد من الإشارة إلى أن الاتجاه الكلاسيكيّ كان في نشأته وتطوّره مرتبطاً بالأنظمة التقليدية والطبقة الأرستوقراطية والسلطة الملكية المطلقة، لأن هذه الجهات كانت، في أذواقها، تنشد الشيء الأكمل والأجمل. ولذلك كان الفرنسي العظيم فولتير المتوفى عام 1778 يعلن بصراحة انتماءه إلى عصر لويس الرابع عشر (1661-1685) وقد أكد في مؤلفاته أن الحضارة الارستوقراطية لا بد أن تستتبع نوعاً من الكلاسيكية بدرجة ما.
2-الجذور:
يمكن القول إن جذور الحركة الكلاسيكية ظهرت منذ القرن الثالث عشر في إيطاليا مع ظهور أدباء كبار منهم دانتي شاعر إيطاليا العظيم بل أشهر شعرائها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وهو مؤلف "الكوميديا الإلهية" التي بسط من خلالها نظريته الشعرية الاتباعيّة. ومنهم بترارك الشاعر الذي عاش في القرن الرابع عشر وكان أول من كتب باللغة الإيطالية، واشتهر بالدعوة إلى إحياء التراث والدراسة والتنقيب في آداب الأقدمين (اليونان واللاتين). ومنهم أيضاً الشاعر بوكاشيو (القرن الرابع عشر) الذي درس اللغة اليونانية وأتقنها وتفهّم آدابها ولكنّه آثر الكتابة باللغة الإيطالية، فأغناها، وجاءت على يديه لغةً للأدب الرفيع، وألّف منها كتابه (الديكاميرون) وهو مجموعة من الحكايات النثرية التي تصور المجتمع الإيطالي.
ولما سقطت القسطنطينية في يد السلطان محمد الفاتح عام 1453 فرّ العلماء اليونان بمخطوطاتهم إلى إيطاليا، وأخذوا يعلّمون في جامعاتها وينشرون ما حملوه من النفائس في العلوم والمعارف والآداب، وساعدهم في ذلك انتشار الطباعة التي يسرّت نشر المؤلفات.
3-الــــبزوغ:
بعد هذه الممهدات السالفة الذكر بدأت بوادر الاتجاه الكلاسيكي تظهر في القرن السادس عشر وبوجه التقريب فيما بين عامي 1515-1610.
هذه الفترة التي يطلق عليها في العادة اسم "عصر النهضة". وتعبّر هذه التسمية عن يقظة الآداب والفنون في القرن السادس عشر. وكانت النهضة أمراً ضرورياً لا بدّ منه. فقد أسفر القرنان الثاني عشر والثالث عشر عن حركة أدبية مزدهرة، ولكن هذا الازدهار ما لبث أن كمد ومال إلى الانحدار في القرن الرابع عشر، ومع الحروب الفرنسية الإيطالية جرى بين القطرين احتكاك حضاري أفضى بالفرنسيين إلى العودة لدراسة النصوص اليونانية واللاتينية وفهمها على نحو أفضل، وساعد على إنجاز هذه الحركة أمران: الطباعة والإصلاح البروتستانتي، مما شجع على تطور النزعة النقدية بسبب المناقشات الفلسفية والدينية.
وبدءاً من القرن السادس عشر ينتقل مركز النشاط الكلاسيكي من إيطاليا إلى فرنسا. صحيح أن الكلاسيكية عمت أوربا ولكنها كانت في فرنسا أكثر وضوحاً وبهاءً، وباللغة الفرنسية ظهر أشهر الأدباء الكلاسيكيين، ولذلك سنعمد إلى استقراء نتاجها في الأدب الفرنسي كنموذج بارز للاتجاه الكلاسيكي الأوربي، كان له إشعاعُه القويّ على مجمل الرقعة الأوربية والعالمّية.
----------------------------------------
4-بواكير الكلاسيكية الفرنسية:
يمكن تقسيم الشعر الكلاسيكي الفرنسي في القرن السادس عشر إلى ثلاثِ مراحل أو بالأحرى إلى ثلاث مدارس كانت كلٌ منها معلماً بارزاً أفضى إلى ما يليه في سلسلة متتابعة الحلقات.
آ-مدرسة الشاعر كليمان مارو: C.Marot(1407-1544):
وكانت آثاره جسر عبور من القرون الوسطى إلى النهضة. وكان هذا الشاعر في أول الأمر يُعنى بالبلاغة التقليدية، ثم ما لبث أن تحوّل شاعراً مؤرخاً لدى البلاط. وتتميز أشعاره بالتنوع والوضوح ودقة التعبير وكان مثله المفضل الشاعران فيرجيل وأوفيد، وقرأ بترارك باللغة الإيطالية، وكتب باللغة الفرنسية فأغناها بالمفردات واحترم نحوها فجاءت في أشعاره نقية رشيقة صالحة للتعبير اللطيف عن المشاعر المعتدلة. وتعدّ قصيدته التي أرسلها من السجن إلى صديقه ليون Lyon في عام 1526 نموذجاً لهذا الشعر. كانت منظومة شعرية لطيفة تتضمن قصة الأسد والجرذ التي أُثِرتْ عن الحكيم اليوناني إيسوب. وكان يرمي فيها بشكل غير مباشر إلى حث هذا الصديق ذي النفوذ للسعي لإطلاق سراحه. وهذا ما حصل فعلاً. وقد اقتبس لافونتين فيما بعد هذه القصة ليجعل منها حكاية من أجمل حكاياته الخرافية. وتتميز قصيدة مارو بالأسلوب القصصي الحواري البسيط والسّهل الممتع مع بعض التلاعبات اللفظية البلاغية كالتورية والجناس.
ب - مدرســـــة ليون:
كانت مدينة ليون في القرن السادس عشر عاصمةً ازدهرت فيها الآداب والفنون وانتشرت فيها الطباعة، فنافست باريس، وكانت أكثر تأثراً بإيطاليا لقربها منها، فبرز منها أدباء عديدون تركوا في الاتجاه الجديد أصداءً قوية مثل أ. هيروويه A Heroét وموريس سيف M. Sèeve والسيدة لويز لابيّه L.labbé وعاشوا جميعاً في أواسط القرن السادس عشر شعراء غير بلاطيين. وقد مهدوا بأساليبهم الطريق لرونسار وجماعة الثريا الذين كانوا يقدرونهم حق التقدير وتابعو الطريق من بعدهم، ولا سيّما في الابتعاد عن الطابع العلمي والقيود اللغوية والعروضية والبلاغية والميل إلى الفكر والعاطفة، وتفضيل اللغة المحليّة مع مراعاة البساطة والوضوح.
جـ- رونسار وجماعة الثريّا La Pléade:
برزت هذه الجماعة في أواسط القرن السادس عشر، واستمرّ نشاطها إلى نهايته. وأعضاؤها هم: (رونسار Ronsard ت 1585، ويواكيم دوبيلي ت 1560 وريمي بيللو ت 1577، وأنطوان دو باييف ت 1530 وبونتوس دوتيار ت 1603 وجوديل ت 1660 وجان دورا ، ت 1588) وتبعهم شعراء آخرون غير أن هذه المجموعة الشابّة المتحمسّة لم تأتِ بكشفٍ نقديٍ جديد ولا بتغيير منهجي مفاجئ يُحدِث تحولاً جذرياً في الشعر، بل تعتبر مرحلةً من النضج والجهد المنظم لاتجاهٍ شعريٍ عام وقد نجحوا في استيعاب المعطيات التطورية البطيئة التي جرت خلال نصف قرن مضى. ويمكن تلخيص مبادئ هذه الجماعة في النقاط الآتية:
1-إن اللغة الفرنسية أضحت قادرة على منافسة اللغات القديمة والتعبير عن شتى الأفكار والأحاسيس في شتّى الأنواع الأدبيّة والأساليب، ولاجل ذلك لا بدّ أن يعمل الشعراء لإغنائها بالمفردات والارتقاء بها، سواءٌ بالترجمة أو التقليد، أو بإدخال الأنواع الأدبية العظيمة القديمة إلى مجالها الإبداعي. وملاكُ الأمر الإيمان باللغة الفرنسية وإمكان استبدال مفرداتٍ فرنسية مكان الكلمات اللاتينية التي كان يلجأ إليها بعض الشعراء بحجة أن اللغة الفرنسية قاصرة عن إمدادهم بالكلمات البديلة. ولذلك كان رونسار يؤكد دوماً ضرورة نبذ الكلمات القديمة والبحث عن لغة فرنسية كاملة. يقول في مقدمة ملحمته "الفرنسياد": "إني أنصحك بالاستفادة من كلّ اللهجات على السّواء، وبعدم استعمال كلماتٍ قديمة". بينما كان ماليرب يدعو إلى الاقتصار على اللهجة الفرنسية السائدة في جزيرة فرنسا Ile de France ، وهي المناطق الواقعة في الوسط والشمال الغربي من فرنسا المحيطة بنهر السين: أما لافونتين وفينيلون ولابرويّير فكانوا منحازين إلى الكلمات الفرنسية، ولكن دون جدوى.
ودعا رونسار في كتابه (فن الشعر) إلى تبني الكلمات التي يستعملها الحرفيون كالحصّادين والحدادين والصاغة والبياطرة وعمال المناجم وإلى اختراع كلماتٍ جديدة سواءٌ بالمزج بين مفردتين لاستيلاد دالٍ جديد مثل كلمة (حلْومرّ Doux-amer) لما هو في المذاق بين بين، أو باشتقاق كلمات جديدة بإضافة بعض المقاطع إلى النعت أو بصيغة التصغير أو بتحوير الكلمات اللاتينية واليونانية وإخضاعها إلى اللفظ الفرنسي (الفرنسة).. وقد طبق رونسار هذه الوصايا في آثاره الأدبية، إلا في أحوالٍ نادرة معدودة.
2-التجديد في النحو، لأن لغةً جديدة لا بد لها من نحو جديد
3-إدخال الأجناس الأدبية العظيمة المعروفة في الآداب اليونانية واللاتينية كالترجيديا والكوميديا والملحمة والنقد إلى مجال اللغة الفرنسية
4-استخدام المعطيات الأسطورية التي بقيت في الشعر الفرنسي إلى عهد شاتوبريان.
5-تجديد إيقاعات الشعر الفرنسيّ وتطويرها ولا سيما الشعر الغنائي وابتكار أوزان جديدة.
وإذا شئنا تحديد الموقع الأدبي لرونسار كنموذج للشعر في هذه الفترة قلنا إنّه من الوجهة الكلاسيكية متعلق بالثقافة القديمة وتقليد القدماء في الموضوعات والصور والمعالجة إلى درجة انعدام فرديّته. فالحب في شعره ليس حبّه الخاص، ولا تجربته الفردية بل هو الحب العام كما يفهمه معاصروه وأسلافه الذين نسج على منوالهم ولا سيما الإيطاليون.
ومن جهة أخرى ظل رونسار محافظاً على نظرية الأجناس الأدبيّة والأسلوب الخطابي والتعليمي الذي يتجه إلى العقل ويؤثره على العاطفة.
ولكن رونسار لم يقف عند هذا الحدّ بل خطا في الشعر خطاً جديدة وذلك باتجاهه أحياناً نحو العاطفة والخيال والجوّ الحزين مما يذكرنا بلامارتين كما تميز أسلوبه بالغزارة والتنوع والتلوين والجرأة اللغوية والانسياق مع الحماسة الشعرية دون روّية وحسن اختيار.. مما يعدّ في نظر النقاد ومؤرخي الأدب جذوراً للمدرسة الرومانسية التي بزغت فيما بعد الكلاسيكيّة.
د - تجديد ماليرب F.Malherbe (1555-1628).
يُعَدُّ ماليرب أمّةً وحدَه. فقد كان بنفسه مدرسة واضحة المعالم أثّرت في تجديد الشعر وتحديد معالمه في مستهلّ القرن السابع عشر، وكان حلقة اتصال بين جماعة البلياد والأدب الكلاسيكي العظيم في القرن السابع عشر. لم يؤيّد اتجاهات رونسار وجماعة البلياد، بل انتقدهم بشدة في كتابه "الفن الشعريّ" وهو الذي سار بالشعر الفرنسي إلى الصفات الوطنية الفرنسية الأصيلة. وله في موسيقا الشعر آراء إيجابيّة، فقد سخر من طريقة رونسار، وجاء بشعرٍ جميل الإيقاعيّة. وكان يرفض التقليد المبالغ فيه للقدماء على الرغم من تضلّعه في الآداب القديمة وترجمته بعض الآثار اللاتينية إلى الفرنسيّة، ولم يكن يرى مانعاً من الاقتباس من أفكار القدماء، لا من تقنيات التعبير وأساليبه، لأن هذه -كما يقول- منوطةٌ بالزمن وكان يُجانب التراث اليوناني ويتجه صوب التراث اللاتيني، لأنه أكثر تعويلاً على الفكر، وأقرب إلى العبقرية الفرنسية، وباختصار: إن أدب ماليرب هو أدب العقل والفكر وموضوعات الساعة لا أدب الخيال والرمز. يؤثر السهولة والوضوح والمنطق ويعوّل فقط على اللغة الفرنسية كما هي لدى أعمق الطبقات الشعبية، لا على اللهجات البروفانسية، فحسب، وإنما كان يتجه صوب اللغة الشعبية لتمده بالمفردات الفرنسية أمّا القواعد فقد بقيت عنده أصيلة نقيّة.
أما أسلوبه فكان قدوةً لموليير وراسين مع احتفاظ مقلّديه بطابعهم الشخصيّ. ولشدّة تأثيره في المدرسة الكلاسيكية قال عنه بوالو: "وأخيراً جاء ماليرب..!" ويقول إميل فاكيه عن الأدب في الثلث الأول من القرن السابع عشر: "إنه كان أدباً رومانسياً ولا سيّما في الشعر حيث يسود الخيال والنزوة والفانتازيا.. وفي هذا الوسط يبدو ماليرب منعزلاً، ليس له من الأتباع إلاّ واحد أو إثنان، وهم بدورهم شديدو الاستقلال، ومن أغرب الأمور - وذلك يحدث في الأدب أحياناً- أن نرى ماليرب قد أصبح مدرسة ذات شهرة واتساع، ولكن بعد وفاته بأربعين عاماً"
----------------------------
العصر الذهبيّ للكلاسيكية
بلغت الكلاسيكية الفرنسية بعد ماليرب ذروتها في النصف الثاني من القرن السابع عشر. وتقسم هذه الفترة إلى قسمين: أولهما فترة الإزدهار من 1660-1688 والثاني فترة الانتقال من 1688-1715.
أولاً- فترة الازدهار:
وقد أسهمت فيها عوامل وظروف عديدة أبرزها:
1-رعاية لويس الرابع عشر الذي كان ملكاً قوياً، حصر السلطات كلها بيده. وهو الذي قال قولته المشتهرة: "أنا الدولة" وفي عهده ازدهرت الصناعة والزراعة والتجارة والنظم الإدارية والاقتصاد، واهتم بتقوية الجيش والبحرية، وخاض حروباً كثيرة مع جيرانه حاز فيها انتصارات كثيرة، ولكنها آلت في النهاية إلى إضعاف فرنسا وضعضعة اقتصادها وتبديد ثرواتها وألحقت المآسي والآلام بالشعب الفرنسيّ.
عرف لويس الرابع عشر برعايته الآداب والفنون والعلوم مادّياً ومعنوياً وتقريبه الأدباء الكبار ومنحهم المسكن والمرتبات، ولذلك بلغت الحركة الأدبية في عهده أوج الازدهار، فظهر في المسرح كوريني وراسين وموليير وفي الشعر والنقد بوالو وفي الحكايات لافونتين وفي النقد لابرويير، وفي الفلسفة ديكارت وباسكال، وفي الخطابة فينيلون وبوسوييه، وفي التاريخ سان سيمون، وغير هؤلاء عديدون، وبرز عددٌ من الفنانين والنحاتين والمعماريين والعلماء والممثلين. ورعى الأكاديمية وافتتح المعاهد والكليات وأنشأ المكتبات.. وأعادَ للعبقري اعتباره واحترامه.
2-جمهور النخبة المثقفة وكان يتألف من الحاشية الملكية ورجال الحكم والبلاط- ومن الطبقة البورجوازية:
آ- البلاط الملكي: كان لويس الرابع عشر يختار حاشيته من النبلاء. وكان هؤلاء يتنافسون في التقرب منه وخدمته وابتغاء رضاه ويبذّرون أموالهم للظهور بالمظهر اللائق، وسرعان ما يفضي بهم التبذير إلى الإفلاس والافتقار، فيعيشون منتظرين إحسان الملك وهكذا يزداد سلطانه رسوخاً بضعف نفوذ من دونه. وقد وجد الأدباء في البلاط والحاشية جمهوراً مشجِّعاً، فثّم الثقافة والذوق والتشجيع والكرم والتنافس في المظهر الثقافي الراقي. وتألقت في هذا المحيط سيداتٌ ذكيات على جانب من الثراء والثقافة والذوق، كن يشاركن في القضايا السياسية والمناقشات الدينية، ويفتتحن الصالونات الأدبية في بيوتهن.. وإليهن يُعزى تشجيع كثير من الأدباء والارتقاء بفن المحادثة الرقيقة التي تتميز بالذكاء والحساسية والإرهاف مع لطف الكناية والتورية والإيجاز مع العمق.
والحقيقة أن فرساي واللوفر وسواهما من القصور لم تشهد أفضل من هذا الجمهور برجاله ونسائه وسياسييه وأدبائه وعلمائه وفنانيه من حيث المستوى الثقافيّ والمقدرة على الفهم والنقد والتذوق، والتحلي برعاية المبدعين وتشجيعهم.
ب- الطبقة البورجوازية: انتشر العلم في هذه الطبقة التي برزت في مجتمعات المدن ولا سيما العاصمة. وبينما كان النبلاء يفلسون الواحد تلو الآخر، كان البورجوازيون يزدادون غنىً ويسراً، فكانوا يعلّمون أبناءهم في أفضل المدارس وعلى يد خيرة الأستاذة والمربين، فيتخرجون في الكليات الجامعية أو في معاهد اليسوعيين مزودين بالمعرفة العالية، ثم يبحثون عن منصب في الدولة، لائقٍ بهم يشترونه بالمبالغ الكبيرة، وقد كانت هذه الطبقة تجمع إلى جانب الثراء، الإقبال على الأدب وتشجيع الأدباء والتنافس في اجتذابهم، مما جعل منهم جمهوراً آخر يضاف إلى جمهور البلاط والنبلاء، يُحْسن تقدير الانتاج الكلاسيكي الرفيع، ويشجع أصحابه ويحرص على الظهور في الأوساط الأدبيّة وفي المقاعد العالية في صالات العروض المسرحيّة.
3-التأثيرات الخارجية:
تتلخص هذه المؤثرات بالعوامل الآتية:
1-المجادلات والمناظرات الدينية بين أصحاب الاتجاهات البروتستانتية والكاثوليكية والجانسينيّة والصوفية. وقد برز أثر ذلك في أدب الخطباء مثل بوسُّوييه وفينيلون ولدى أمثال راسين وبوالو.
2-الدمار والضعف في بنية الدولة في أواخر حكم لويس الرابع عشر من جراء الحروب والكوارث التي لحقت بالشعب، مما ترك أصداءً مأساوية عميقة لدى الكتاب أمثال فينيلون ولا برويير، ومهد بالتالي لظهور الرومانسية.
3-الآداب الأجنبية: أثرّ الأدب الإيطالي في الأدب الفرنسي الكلاسيكي، في النصف الأول من القرن السابع عشر (تأثير لاتاسّ) وقلّد كوريني ومعاصروه الأدب المسرحي الإسباني (تأثير سيرفانتس ولوبي دي فيغا وكالديرون) وبقي أدباء الملهاة الفرنسيون يقلدون الملهاة الإسبانية حتى نهاية القرن السابع عشر. ولكنهم سرعان ما تخلصوا من هذه المؤثرات التقليدية منذ عام 1660 إلاّ في القليل النادر، فموليير مثلاً بدأ بتقليد الطليان ثم قلد الإسبان في مسرحية (دون جوان) وفيما عدا ذلك كان فرنسياً بكلّ معنى الكلمة. أما لافونتين فقد قلّد خرافات الأقدمين (إيسوب).
أما الناثرون الكبار فلم يتأثروا بأي صدى خارجي.
خصائص الكلاسيكيّة
1-التعويل على الحقيقة أو ما يشببها:
وهذا يعني الاقتراب من الواقع والابتعاد عن نزوات الخيال والوهم وهذيان العقل مهما تعاظمت فينا مناطق القلق الخفيّ. فالحقيقيّ وحده هو الجميل، وهو الطبيعيّ. إنه الطبيعة النفسيّة العامة والمختارة في آن واحد. فالعمومية لأن العمل الفنيّ يتجه إلى جميع الناس القادرين على التفكير والتصوّر والإحساس، والاختيار لأن الاستثناء والعظمة اللذين يوجدان غالباً في الطبيعة مناقضان للحالة العامة. ونحن لا نصل إلى العام إلا عن طريق الواقع الخاصّ المنتقى وهو في أغلب أحواله نفسيّ نموذجيّ. والأدب الكلاسيكي سيكولوجي لأنه يهتم بداخل الإنسان، أما الإطار الخارجيّ فليس أكثر من زينة لا يُعطىَ وصفُها إلاّ أقل مقدار كما في تحليلات لافونتين. والغاية من هذه السيكولوجية البحث عن الملامح المشتركة التي يلتقي عندها البشر في كلّ العصور.
ومع ذلك لا ينفي الناقد بوالو الاهتمام بتصوير الطبيعة الخارجية تصويراً بديعاً إذا حذفت الملامح الخاصة جداً.
والحقيقيّ وحده هو الممتع والمحبوب، ولما كان هدف الشعر ليس التثقيف والتعليم والبرهنة، بل الإمتاع، فالطبيعة وحدها هي الشيء الممتع، وكل مصطنع مقيت. ولم يكن المجتمع المصطفى في القرن السابع عشر يحتمل الجليل الدائم ولا الواقع التافه المنحطّ بل كان يؤثر أن يشاهد نفسه في مرآة التحليلات والإبداعات الأدبية التي تقدم إليه، ولا يريد أن يقع تحت سيطرة الأمور الغريبة والنادرة والاستثنائية.
2-العقلانية:
إذا كان الأمر كذلك، فما معيار الحقيقيّ أو الطبيعي أو ما يشبههما؟ إن عقلنا وحده هو الحكم الموجّه، وبه نستطيع التمييز بين الحقيقي والمزيف والنسبيّ والمطلق والخاص والعام. وهو الذي يمنعنا من أن ننساق إلى نزوات الخيال والأمور غير الواقعية والمبالغة في التعبير عن آلامنا وأفراحنا. ومن هنا غابت الغنائية المعتمدة على الخيال والأحلام والعواطف القويّة.
إن العقل مرادفٌ للحسّ السليم تقريباً. وهو الملكية المشتركة بين كل الأشخاص في جميع الأزمنة والبلاد، التي تعتمد في أحكامها على ما هو شاملٌ وبسيط في الطبيعة الإنسانية.
3-تقليد القدماء:
رأينا أن الأدباء قبل القرن السابع عشر كانوا ينظرون إلى قدماء اليونان واللاتين نظرة احترام وتقديس، ويعدونهم الأساتذة الشرعيين في الأجناس الأدبية كلها. وقد أكد ذلك ماليرب وبلزاك وكتّاب المأساة الكبار، وبلغ تقديس القدماء أعلى درجاته عند راسين ولافونتين وبوالو. أما موليير فقد بقي أكثر استقلالاً منهم.
ويرى بوالو أن تكوين الملكة العقلية الصائبة لا يكون إلاّ بدراسة القدماء، لأنهم كانوا أقرب منا إلى الطبيعة، ولذلك حللوها بمزيد من البساطة، واستطاعت مؤلفاتهم التي أنجزوها في حضارتهم القديمة المغايرة لحضارتنا أن تصمد أمام الكثير من التغيرات السياسية والدينية والأخلاقية والفنّية، وما ذاك إلا لأنها تحتوي على الكونيّ الحقيقي والإنسانيّ الحقيقي. ففي مدارسهم نتعلم كيف نكتشف الإنسان من خلال الأفراد، وبتقليدهم تستحق مؤلفاتنا بدورها الحياة في الأجيال القادمة ويقول لافونتين: "إنك إذا اخترت طريقاً آخر غير طريق القدماء فسوف تضلّ" وإذا نظرنا إلى موضوعات راسين ألفيناها كلها مستقاة من الإطار القديم باستثناء (بايزيد).
4-التأثير المسيحي:
كان أدباء الكلاسيكية يلتمسون لدى القدماء مساحات مشتركة تاريخية وأخلاقية ليغنوها بما اكتسبته النفس الإنسانية من المسيحية، وأجناساً أدبية ليطوروها بما يوافق العالم المعاصر المهذّب: وإن المسيحية ذاتها تحث الإنسان المخرّب من الداخل إلى تزكية نفسه ومقاومة ميوله السيّئة، ولم يكن لديها مانع من إحياء الآداب القديمة على الرغم من كلّ ما قيل فيها. وقد اندفعت المسيحية إلى الجانسينية([1]) مع باسكال وبوالو وراسين، وكان أدب الخطباء مشبعاً بالمسيحية على نحوٍ من الأنحاء. أما الشعراء فقد بقوا يستخدمون الأساطير كعرفٍ وتقليد مع احترامهم للمسيحية.
5-الإتقان الفني:
لا مجال في الكلاسيكية إلى الجموح والخروج عن القواعد. ولا بدّ للكاتب من أن يتقن فنه ويصقله إلى درجة الكمال، ولكن بشرط المحافظة على البساطة وعدم التكلف والتصنّع. والجمال الفني يعني العمل الدؤوب والإخلاص في المهنة ومعاودة العمل بالتهذيب على أن لا تكبح القواعدُ وثباتِ الروح والموهبة. وأوضحُ مثال لهذه المعادلة فن التراجيديا الكلاسيكية التي تقيّدت بنظرية الأجناس والوحدات الثّلاث إطاراً للإبداع.
6-القيم الأخلاقية:
ينبغي ألاّ يغيب عن البال أن الجمال الفني لا يُبتغى لذاته أو لمجرد الإمتاع، بل لا بد معه من مثالٍ أخلاقي وروحيّ يرمي إلى رفع الإنسان إلى حالة أفضل، إن الجمال والخير صنوان لا يفترقان في المعيار المسيحي، ولذلك يجب أن يلتقي الإنساني والألهي في النص الأدبي، وإن الفصاحة هبة من السماء ينبغي أن تستخدم في حث الإنسان إلى الفضيلة. ولذلك اتجه الكتاب إلى معالجة المشكلات الإنسانية كالحبّ والبغض والهوى والغيرة والعقل والواجب والعاطفة والرياء والبخل.. وهكذا تبلور في الكلاسيكية اتجاه عام يرمي إلى صوغ مثال جماليّ وأخلاقي موحّد، ينطلق من وحدةٍ ذوقية في الشعر والنثر، كانت من أبرز سمات العصر التي عبّر عنها النقاد من بلزاك إلى بوالو.
7-أدب إنساني:
يقول بيير جانيه : "إن أَدبنا الكلاسيكيّ أدب إنسانيّ مطلقاً، نشأ من الإنساني وتوجّه لتلبية حاجات الإنسان" وهذا القول على تعميمه وإطلاقه فيه الكثير من الصحّة. فقد كان الأدباء على اختلاف أنواعهم الأدبية ينطلقون من النفس الإنسانية بعموميتها ويتجهون إلى النفس الإنسانية. ولنأخذ مثالاً على ذلك موضوع الحب الذي عولج بقالب غزلي ممتع، والملهاة التي راحت تصوّر مهازل المجتمع ونقائصه بأسلوبها الممتع بغية حماية المجتمع وإصلاحه. أما الشعر الغنائي فقد تحوّل إلى المحور الاجتماعي مع الحفاظ على تفتيح العواطف الفردّية، وأخذ الشعر التعليميّ والهجائي الصبغة الإنسانية، وحازت الخطابة مستوى عالياً من إقبال الجمهور والتأثير فيه، وغدت الحكاية والرواية أقرب إلى المثالية والمعالجة النفسيّة والمغازي الأخلاقية..
وقد اهتمت هذه الأنواع كلّها بالعواطف المشتركة والأخلاق العامة ونأت عن الحالات الشديدة الخصوصيّة أو الناشزة والنادرة. وكانت تحرص على تلبية الرغائب وإرضاء الأذواق لدى مجتمع مُغْلق صغير يتمتع بالمؤهلات والمستويات العالية إلى جانب المال والسلطة والوجاهة، مع استدراكنا بأن الأنواع التعليمية والخطابية والقصصية والهجائية اتجهت أيضاً إلى فئات أخرى من الشعب.
8-أدب غير شخصيّ:
فالكاتب لا يعبر مباشرة عن آرائه ومشاعره بل يتبع النهج التعليمي أو الدراميّ، وتبدو الذات وكأنها غائبة، ويبقى التعبير من خارج الذات أو بالأحرى، تندغم الذات في الموضوع، فشخوص المسرحية هي التي تتكلم وتعبر عن مقاصد الأديب بطريقة غير مباشرة وبشكل مشابه للواقع، لكن الذات لا تغيب تماماً بل قد تظهر من خلال الأشخاص، وكثيراً ما كانت أعمال موليير وراسين وبوسوييه وكورنيي تشف عن ذواتهم.
9-التعبير الكامل باللغة الوطنية:
رأينا سابقاً كيف أن طلائع الكلاسيكية عزفوا عن الكتابة باللاتينية ونفروا من استخدام مفرداتها ومصطلحاتها وأصروا على الكتابة باللغة المحلية ودأبوا على إغنائها بالمفردات بطرائق صَرْفيةَ متنوعة، حتى أصبحت لغة غنية متحررة قادرة على التعبير عن كل المقاصد. ولكن اللغة الوطنية تتنوع من كاتب إلى آخر، وتبقى لكل كاتب شخصيته اللغوية الخاصة على الرغم من نداءات فوجولا والأكاديمية والصالونات الأدبية.
أما الأسلوب فكانت له صفات عامة مشتركة، فقد تخلّص من النحو اللاتيني وأصبح يتحلى بالوضوح والبساطة مع الصقل والتهذيب لكنه احتفظ في التراجيديا والمراثي والخطابة بأبّهةٍ تتخللها بعض المقاطع البسيطة، وحتى في الأجناس الأخرى بقي الأسلوب حريصاً على الحوار المهذب ولم يتدنّ إلى المستوى
([1]) نسبة إلى جانسينيوس اللاهوتي المسيحي في القرن السابع عشر الذي شرح أفكار القديس أوغسطين وجاء بنظرية النعمة الإلهية والقدر الأزلي وحرية الاختيار.
__________________
ثانياً: فترة الانتقال: ( 1688-1715)
نشأ في نهاية القرن السابع عشر ردّ فعل نتج عنه صراعٌ بين القدماء والمحدثين. فقد انتهى الأمر بالمحدثين إلى تأليفهم أعمالاً لا يمكن أن تضاهى أعمال القدماء، وأصبح القوم في حضرة أدبٍ قوميّ جديد يمكن أن توصف نفائسه بأنها أخصب من مؤلفات الأقدمين، فلماذا يلهجون إذاً دوماً بتقدم الأقدم في الزمن؟ لقد آن الأوان للإقلاع عن هذا التواضع الذي بلغ حدّ الرياء، ولا بد من المجاهرة بأن عصر كورنيي وموليير وراسين يعادل من حيث الكيفية والكمية عصر بريكليس وأوغست وذهب مؤيدو هذه الفكرة الصحيحة في حد ذاتها إلى أبعد من ذلك، حين أعلنوا -دون حق في هذه المرة - تفوق المحدثين على القدماء لا معادلتهم فحسب. وبلغ بهم الأمر إلى ثلب القدماء إذا كانوا في معرض الثناء على المحدثين، وإلى الخلط بين الجيد والرديء من الكتاب المحدثين. وكان لا بدّ لهذا الموقف من أن يثير احتجاجاً متطرفاً أيضاً لدى أنصار القدماء إذ وقفوا متعصبين إلى من كانوا يعدّونهم نماذج عالية لا تضاهى.
وثمة أسباب أخرى عملت في ترجيح تيار الحداثة وهي:
1-تطورُ العلوم، ولا سيما التطبيقية، ممّا سوّغ فكرة ضرورة التطور في الآداب وشرعيتها قياساً على العلوم.
2-كانت الكنيسة والأفكار المسيحية إلى جانب أنصار الجديد من حيث إن التفوق الأخلاقي المسيحي لا بد أن يقتضي تفوقاً أدبياً
3-كان لا بد للفردية التي خنقتها الكلاسيكية من أن تجنح وتتمرد معلنة حقوقها في التخيل والإبداع الخيالي المتوثب والاعتراف بالعواطف الفردية في مقابل هيمنة الفكر والقواعد.
مقارنة بين الطرفين:
في الحقيقة أساء كلا الطرفين طرح قضيته والدفاع عنها. فقد وقفوا جميعاً إلى جانب أشخاص أكثر من وقوفهم إلى جانب قضية، وكثيراً ما أعوزتهم الحجج القوية والبراهين الدامغة، ولم يحالفهم الصواب أو الخطأ إلا في بعض الجزئيات. فقد كان بيرّو Perrault يسفّه الذين يريدون تقليد الأقدمين دون جدوى حسب زعمه، ويثني على المحدثين إطلاقاً ويرى أنهم كانوا ضحية بوالو، أما بوالو فقد كان يدافع عن القدماء مثل هوميروس وبندار دفاعاً أخرق، ولم يأت بنظرية صحيحة في تقليد القدماء إلاّ في القليل النادر
n نتيجة:
كان المعاصرون هم الفائزين في هذه المعركة. فالقرن الثامن عشر لم يعد يعرف القدماء. لقد انتصرت فكرة التقدم في مجتمع واثق بنفسه مؤمن بإمكاناته الإبداعيّة، كارهٍ للتقليد والعودة إلى الوراء. ولكن الروح الموسوعية بانصرافها عن المسيحية فقدت العنصر الأهم في أصالة المعاصرين. وكان يجب أن ننتظر مجيء شاتوبريان لينجز نظرية المعاصرين. فهذا الصراع كانت له في ذاته أهمية حقيقية. وعلى الرغم من احتوائه على بعض الرعونة في كثير من جزئياته كانت فيه كل موارد القرن الثامن عشر: هذا القرن الذي كان من جهة امتداداً للسابع عشر (في فرنسا على الأقل) ومن جهة ثانية استجابة وتحضيراً للثورة الفرنسية وعودة إلى عصور الوثنية اليونانية إنه في آن واحد انتماءٌ إلى الماضي وتجاوزٌ عصريّ له.
__________________
أعلام وملامح ونصوص
مارو Clement Marot - 1497-1544
كليمان مارو من شعراء البلاط. عاش في كنف فرنسوا الأول وأخته مرغريت وكان شعره من النوع السطحّي الخفيف المستوحى من الظروف والمناسبات عاش حياة يسرٍ وهناءة تخللتها منغّصات، فسجن مرات ونفي وفقد أمواله. وكان في كل مرة يلتمس من سادته وأصدقائه العون المادي والمعنويّ.
وقد أرسل القصيدة الآتية من السجن إلى صديق له ليسعى في فكاكه.
إلى ليون جاميه L. Jamet([1])
.. أودّ أن أقُصّ عليك حكاية جميلة،
عن الأسد والجرذ:
كان ذلك الأسد أقوى من خنزير عجوز،
ومرةً وجد جرذاً حبيساً في مَصْيدة، عاجزاً عن الخروج،
لكثرة ما التهم من الشحم واللحم
ولم يكن ذلك الأسد وغداً
فقد وجد وسيلةً وطريقة لإنقاذه
بمخالبه وأنيابه حطّم المصيدة،
فانطلق الجرذ مسرعاً،
وركع أمامه باحترام وحياه برفع قبّعته،
شاكراً ألفَ مرة لذلك الحيوان الكبير،
وأقسمَ بربّ الفئران والجرذان
أن يردّ له الجميل!
ومرةً خرج الأسد من عرينه ليبحث عن فريسة،
ولسوء حظه وقع في مَصيدة
وألفى نفسه مقيداً إلى حجر راسخ
وفي الحال وافى الجرذُ فرحاً ومندهشاً،
لا مقْطعةَ معه ولا سكّين
فلم يسخر منه ولا شمت به،
بل شتم القطط والقطّات والقطيْطات
واثنى على الجرذان والجرذات والجريذات
ووجد الفرصة المناسبة لذلك الأسد المنكوب
قال: صهْ أيها الأسد المقيّد فالآن أنقذك
إنك تستحق مني هذا الجميل، لأني عرفت قلبك الطيب،
حين خلصتني وأنجدتني بشهامتك الأسديّة،
والآن سأنجدك بشهامتي الجرذية..
***
فتح الأسد عينيه وأجالهما نحو الجرذ قائلاً:
يا آكل الحشرات المسكين،
ليس في وسعك حيلة،
ما لديك موسى ولا سكين،
لتقطع أي حبل أو حُبيلة،
فتطلقني من هذا الأسر
خيرٌ لك أن تختبئ
حتى لا يراك الهرّ
***
قال سليل الفئران: سيدي العظيم!
حقاً إني ابتسم من كلامك هذا
لا تقلق لأن لي كثيراً من السكاكين!
إنّ أسناني العظيمة البيضاء الجميلة
أشد قطعاً من المناشير
غمدها لثتي وفمي
وبها أستطيع في الحال،
قَطْعَ ما يكبلك من الحبال!
وبدأ السيد جرذ بالقضم
ولما انتهى انطلق الأسد الأسير،
قائلاً في نفسه: حقاً لا يضيع الجميل،
حيثما صُنِع وأنّى زُرع"
***
هذه هي الحكاية بنظمها البديع
إنها قصة طويلة وقديمة
شهدها إيسوب وأكثر من مليون من الناس
فتعال لتراني وتفعل مثل ذلك الأسد
وسأبذل جهدي في فكري واجتهادي،
لأكون حافظاً للجميل مثل ذلك الجرذ!
وأنا أعلم أن الله أعطاك كثيراً من المزايا
لم يمنحها ذلك الأسد العظيم..
n تعليق:
يلاحظ في هذه القصيدة السهولة والوضوح والإمتاع، والاغتراف من أمثال اليونان والترتيب المنطقي في العرض والنتيجة. كما أن النص الأصلي بلغته الفرنسية يتميز بوجود بعض الكلمات اللاتينية والمدلولات القديمة والزخرفة اللفظية البديعة وجمال الإيقاع الموسيقي.
رونسار Ronsard - 1524-1585
نشأ رونسار في بيئة أرستوقراطية، ولازم البلاط الملكي ثم سافر إلى انجلترا وألمانيا وإيطاليا ودرس اللاتينية واليونانية وكوّن حوله جماعة (الثريا) عام 1540 بدأ بكتابة ملحمة الفرنسياد ولم يكملها، وألهمته الحروب الكثيرة المدمّرة نغمات الألم والحزن التي لقيت القبول والرضا في الأوساط الشعبية الفرنسية.
كاسندرا([2])
هيّا يا عزيزتي، لننظر
إن كانت الوردة التي فتحت ثوبها الأرجواني لشمس الصباح
لم تفقد عند المساء طيات ثوبها
الذي لونه يشبه لونكِ
***
واأسفاه، انظري يا عزيزتي،
كيف أنها في برهة قصيرة
أسقطت جمالها الذاوي في مكانها
واأسفاه، واأسفاه..!
أيتها الطبيعة، حقاً إنك أمٌّ قاسية!
ما دامت هذه الوردة وأمثالها
لا تعيش إلاّ من الصباح إلى المساء!
****
إذن، يا عزيزتي، إنْ كنتِ تصدقينني،
فما دمتِ في زهوة العمر وأوج النضارة
اغتنمي، اغتنمي شبابك،
لأن الشيخوخة ستذهب بجمالك
كما فعلتْ بهذه الوردة..!
n تعليق:
1-كان تشبيه الشباب بعمر الورد مألوفاً في الشعر الكلاسيكيّ ولكن رونسار عقد هذه المقارنة من خلال الحوار والحركة
2-يلاحظ العرض المنطقيّ ذو المقدمة والنتيجة على الرغم من الملامح العاطفية
3-في هذا النص وأمثاله بوادر للرومانسيّة
هروب الشباب([3])
.. أيتها الصخور، على الرغم من أن عمرك
يبلغ ثلاثة آلاف عام،
لم تتغيري حالةً وشكلاً .
أما شبابي فقد انقضى .
وهاهي الشيخوخة التي ما تفتأ تطاردني
قد حولتني من الشباب إلى الشيخوخة..!
***
أيتها الغابات، على الرغم من أنك تخلعين كل شتاء
حُلتك المتموجة،
فإن العام الجديد سيكسو هامتك وشاحاً جديداً
أما هامتي فلن تجد مرةً أخرى شعراً جديداً
***
أيتها الأمواج؟ التي لا ينقضي ترحالها
أنت تقودين، المرة بعد الأخرى، دفقاتك
في حركة لا تعرف التوقف
أما أنا فأمضي، مع مرور الليل والنهار،
دون تريّث ولو لبرهة قصيرة،
إلى حيث لا عودة
__________________
كورنيّ Corneille- 1606-1684
تعلّم بيير كورنيّ في معاهد اليسوعيين في روان، ثم أصبح محامياً، لكنه آثر المسرح، فاتجه أولاً إلى الكوميديا وكتب في عام 1635 أولى ملاهيه (ميليت Melite) ثم التفت إلى المأساة فكتب ميديا والسّيد التي لقيت نجاحاً باهراً ثم ألّف هوراس وسينّا وبوليوكت وبومبي ورودوغون ونيكوميد وأوديب وغادر المسرح نهائياً في عام 1674
خصائص مسرحه:
1-تقيّد بالوحدات المسرحيّة الثلاث في مسرحيّة السيّد، ثم بدأ يتململ من قيودها دون تمرد أو تصريح، فجعل يخضع لها أحياناً ويتسامح بها أحياناً أخرى، ويوسّع من حدودها لتتيح له بعض الحريّة وكان على يقين أن التقيّد بها إنما هو استجابة لرغبة جمهور مثقف محدود. وحين أصبح جمهوره كبيراً ومكوناً من مختلف الأصناف، ولا سيّما البرجوازية المتعلّمة التي تريد محاكاة الواقع مدّد المساحة الزمنية للمسرحية إلى عدّة أيام.
2-استمد بعض موضوعاته من الأساطير ولكنه اتجّه إلى التاريخ فاخذ يقتبس منه بعض موضوعاته ولكن بعد إغنائها بالحوادث وتعقيدها بالصراع.
3-لغته عالية فخمة ذات أسلوب خطابي بليغ مرهف
4-كان يحرص على الكشف عن المواقف النفسية والصراعات المعقدة التي تحتاج إلى خلق عوائق وصعوبات وإلى نضال عظيم وإرادة قوية مظفّرة، ولكن ضمن حدود الطبيعة البشرية. فعنده لا توجد هزائم.
5-هيمنة الفكر والمنطق على العواطف والغرائز فكل شيء عنده يجري بشكل منطقي ومعقول، ولا مجال للمصادفات والمفاجآت والمعجزات.
6-كان يرسم الأشخاص كما يجب أن يكونوا، أي يبث فيهم الإرادة القوية والشجاعة ومقاومة الأهواء تحقيقاً لهدفه الأخلاقي. ولذلك قال عنه فولتير: "إنه مدرسة لعظمة الروح".
نصّ من مسرحيّة "السيّد"([1])
الفــصــــل الرابــــــع
إضاءة:
دون رودْريغ هو ابن دون دييغو يحب شيمين بنت دون غورما. وحدث أن أهان هذا الأخير دون دييغو بصفعة، فانتقم رودريغ لوالده بقتل والد حبيبته: ثم اعتذر إليها بأنه- على الرغم من حبه إياها- إنما قام بواجبه. فقالت: وأنا أيضاً أريد أن يعاقب قاتل والدي. ورفعت قضيتها إلى فرديناند ملك إشبيلية. ولكنّ رودريغ سارع إلى قتال الأعداء المسلمين الذين حاصروا إشبيلية مفاجأة وانتصر عليهم وجاء إلى الملك ليروي له قصة المعركة ويعتذر لإسراعه إليها دون إذن منه.
المعركة
دون رودريغ : سيدي، لقد علمتَ أَنّهُ حين داهم المدينة
هذا الخطر، ونشر فيها الذعر،
كان عند والدي جماعة من أصدقائه الخُلّص،
الذين طلبوا مني أن أبذل روحي ولمّا تزل مضطربة
فسامحني يا سيدي على جرأتي
حين مضيت دون مشورتكم،
فلقد كان الخطر شديداً، وكانت الكتيبة جاهزة!
وحين خرجتُ إلى ساحة القتال كنتُ أغامر برأسي
ولئن وجب أن أُقتل فأحببْ إليّ بأن أموت
مقاتلاً دونكم!
دون فرديناند : إنني أسامحك لحماستك في الانتقام من ذلك العدو المهاجم؟
وأشعرُ أن الدولة التي دافعت عنها هي التي تخاطبني
من خلال دفاعك
وتأكدْ أنني بعد الآن لن أصغي إلى كلام شيمين
إلاّ لأعزّيها.. فتابع حديثك!
"يتابع وصف المعركة من أولها إلى آخرها، فيعرض قوة الأعداء وكيفية تسللهم، وكيف كمن بجنوده منتظراً اللحظة الحاسمة المناسبة للانقضاض وهي وقت نزولهم من المراكب. ثم يذكر نتيجة المعركة وهي هرب قسم من جنود العدو وقتل قسم آخر وأسر الكثيرين ومن بينهم ملكان.." ويتميز هذا الخطاب بطوله وتصويره المفصّل الدقيق وبالوضوح مع الترتيب المنطقي للحوادث وتحليل نفسية الأعداء بأسلوب تتجلى فيه الأبّهة والخطابة الشعرية.
([1]) ترجمة المؤلّف عن المَصْدر السابق ص89
__________________
راســـــين J,Racine - 1639-1699
تعلّم جان راسين في صباه اللاتينية واليونانية ثم قصد باريس ليكمل تعليمه، وهناك مال إلى كتابة المأساة، وحاز نجاحاً باهراً في اندروماك، ثم كتب بريتانيكوس وبيرينيس وبايزيد ومتريدات وايفجينيا وفيدر وأتالي وإستر.
خصائص مسرحه:
1-البحث عن الحقيقة والطبيعة أو ما يشبه الطبيعة أكثر من بحثه عن العظمة والبطولة، ويحلل بنفوذ الفيلسوف بواعث الأعمال والعواطف.
2-كان يستقي موضوعاته من الشعر التراجيدي والأساطير اليونانية أو من التاريخ أو من الكتاب المقدس، ويضيف من عنده المكتسبات النفسية العصرية، وربما وقع في الارتباك من جراء هذا التعارض والمزج.
3-اهتم بتصوير الحب وعرضه بلغة الغزل العصري، وألحّ على قضية الغيرة في الحب حتى جعلها دافعاً رئيساً في مسرحه، بينما كانت الإرادة القوية هي الباعث الأول في مسرح كورنيّ.
4-بدلاً من تمجيد القوة والكبرياء كانت مسرحياته تبدو في حُلَّةٍ حزينة تشعرنا بضعفنا.
5-يتميز أسلوبه بالتناغم والصدق والطبيعية. وهو أكثر اندفاعاً من أسلوب كورنيّ. فيه تتكلم كل شخصية بلسانها ولغتها وبحسب نموذجها ومواقفها ويتألق أسلوبه في مواقف الحب، ويصبح أنيقاً.
نصّ من بريتانيكوس -الفصل الرابع([1])
نرسيس يدفع نيرون إلى الجريمة
إضاءة
تزوجت الأرملة أغريبين والدة نيرون الامبراطور كلود. وزوجت ابنها نيرون بنت زوجها هذا. وكان لكلود ولد يدعى بريتانيكوس. وحين مات كلود عملت أغريبين لتنصيب ابنها مكانه، لتمارس نفوذها وحكمها من خلاله ولما شعرت أن نيرون يريد التحرر من وصايتها ونفوذها هددته بتنصيب الوارث الشرعي بريتانيكوس. وكان نيرون ينافسه على الحكم وعلى حب جونيا.
وهنا يفكر نيرون بالتخلص من بريتانيكوس بالسمّ واقعاً تحت تأثير نرسيس الذي كان يريد الثأر لأخيه وقد قتله بريتانيكوس..
نرسيس : سيدي، لقد أعددتُ كلّ ما يلزم لموتٍ عادل:
السمّ جاهز، لقد ضاعفت لوكوستا المشتهرة
عنايتها المخلصة لي..
وقد قتلتْ به عبداً أمام عينيّ.
إنّ ذلك السمّ الذي وضعته بين يدي
أمضى من السيف في اختطاف الحياة
نيرون : كفى يا نرسيس، إنني معترفٌ بهذه العناية
ولا أريدك أن تمضي أبعد من ذلك
نرسيس : ماذا؟ أرى أن كرهك لبريتانيكوس قد بات ضعيفاً يمنعني من أن..
نيرون : نعم يا نرسيس سنتصالح..
نرسيس : سأحترسُ من تحوّلك يا سيدي
ولكن، ألم يكن منذ مدة قريبة سجيناً؟
إن هجومه سيبقى جديداً في قلبه مدة طويلة
ولا يوجد سرّ لا يكشفه الزمان.
وسيعلم أن يدي سوف تقدم له السمّ،
الذي تمّ تحضيره حسب أوامرك.
ربما تغفله الآلهة عن هذه الخطة،
ولكنه قد يفعل ما لا تجرؤ أنت على فعله.
نيرون : الأمر لا يتجاوز قلبه، وأنا سأكبح جماع قلبي .
نرسيس : وجونيا؟ هل سيحظى بالزواج منها؟
هل ستقدم له أيضاً هذه التضحية يا سيدي؟
نيرون : لا.. هذا كثير، ومهما يكن من أمرٍ يا نرسيس
فأنا لن أعدّه بعد اليوم من أعدائي
نرسيس : وأغربين يا سيدي؟ هل أخذت على عاتقها ذلك
وقد استردت له سلطانه المطلق عليك؟
نيرون : ماذا؟ ماذا قالت؟ ما الذي تعنيه؟
نرسيس : طالما افتخرت بذلك أمام الناس.
نيرون : بأي شيء؟
نرسيس : بأنه لم تبق إلا برهة قصيرة
ويحلّ صمتك المتواضع مكان هذا البهاء العظيم وهذا الغضب المشؤوم .
وأنك كنت أول من اختار المسالمة.
سعيداً بأن قلبه الطيب تفضّل بنسيان كل شيء.
نيرون : ولكن، يا نرسيس، قل لي ماذا يجب أن أفعل؟
إني ضعيف الميل إلى عقابها على هذه الجرأة .
وإذا صدق ظني فإن هذا النصر سيعقبه ندمٌ دائم.
ولكن ماذا سيقول الناس في كل مكان؟
أتريدني أن أمضي على سَنن الطغاة .
وأن تمحو روما كل أسمائي المشرفة؟
وتبقى لي فقط اسم دسّاس السمّ؟
وأن لا يرى الناس في انتقامي إلا جريمة قتل أبويّ؟
نرسيس : وهل تتخذ يا سيدي من طياشتهم موجهاً لك؟
وهل تتوقع أن يبقوا ساكتين إلى الأبد؟
وهل من طبعك أن تصغي إلى أحاديثهم؟
هل يمكنك أن تتناسى رغباتك الخاصة؟
وهل تكون الوحيد الذي لا يجرؤ على تحقيقها؟
ولكنك، يا سيدي، لا تعرف الشعب الروماني،
لا، لا، إنهم مستمرون في كلامهم،
وإن حذرك الشديد هذا سيضعف سلطانك .
وفي الحقيقة إنهم يعتقدون أنهم جديرون بأن يهابهم الحاكم .
لقد ألفوا النير على رقابهم منذ زمن طويل
وهم يقدسون اليد التي تبقيهم في القيد .
وسوف تراهم متحمسين في إرضائك..
***
هل تخاف عاقبة جرعةٍ من السمّ؟
اقتل الأخ واهجر الأخت!
فإن روما حين تجد الضحايا لا بد أن تعثر لهم على جرائم
مهما كانوا أبرياء .
وسترى أنها ستعدّ أشأمَ الأيام،
أيامَ ولد ذانك الأخ والأخت.. الخ
***
"ويمضي الحوار هكذا حتى يقتنع نيرون بقتل برتيا نيكوس"
n تعليق:
1-الاقتباس من التاريخ الروماني مع إدخال كثير من التعديلات والتعقيدات 2-التقيد بالطبيعة البشرية أو محاكاتها
3-التعمق في تحليل النفس البشرية
4-دور العاطفة أقوى من دور العقل.. فحجج نرسيس تبدو شبيهة بالمنطقية ولكنها حجج مزيفة لأنها تنطلق من النوازع والرغبات
5-ليس الأسلوب خطابياً بل هو حديث عادي بين شخصين يتكلم كلٌ منهما باللغة التي تناسب طبعه.
---------------------------
موليير Moliere - 1600-1673
ولد جان بابتيست موليير في باريس لوالد يعمل في صناعة السجاد ويقدّمه للقصر. فعلّم ولده تعليماً حسناً وأراد أن يجعله يعمل معه ثم يخلفه في خدمة القصر، لكن الابن ألّف مع بعض أصدقائه فرقة مسرحية كوميدية قدمت عروضها في باريس ومناطق فرنسا ثم استقرّ بها المقام في باريس ليقدّم مسرحياته في قصر اللوفر والقصر الملكي، وكان يؤلف مسرحياته لهذه الفرقة أحياناً يقدم مسرحيات من تأليف معاصريه. أشهر مؤلفاته المسرحية: المتحذلقات، النساء العالمات، دون جوان، كاره البشر، أمغتريون، البخيل، طرطوف، البورجوازي النبيل، مريض الوهم.
مميزات مسرحه:
1-صور موليير مجتمع القرن السابع عشر بجميع شرائحه تصويراً كاملاً