دفع حياته للتقريب بين المذاهب الاسلامية ( عبد العزيز البدري )
ادى سقوط نظام صدام حسين الى فتح المغاليق من الابواب التي كان يمارس خلفها من اعمال ما لا يريد ان يطلع عليها المجتمع. وبعد اكثر من خمسة وثلاثين عاماً على تصفيته تحت التعذيب، زارت (النور) اسرة الشهيد الشيخ عبد العزيز البدري، وتحدثت الى أولاده وبناته وها نحن ننقلكم الى رحاب هذه الشخصية الإسلامية العراقية الرائعة:
ما احوج العراق اليوم الى مثل شخصية عبد العزيز بن عبد اللطيف البدري ( 1930 – 1969 ) الذي كان علماً من اعلام الحركة الإسلامية المعاصرة في العراق وواحدا من اكثر العلماء الساعين الى التقريب بين السنة والشيعة تحت راية واحدة هي الإسلام وفي سائر أرجاء الوطن العربي، وهو شخصية جهادية بارزة وقف في وجه الظلم والاستبداد طيلة تاريخ العراق السياسي المعاصر، فأصبح بوقفته وثباته على الحق منارا يُهدى به ومثابة على طريق الدعوة الى كلمة (لا إله الا الله) فعاش عالما وخطيبا وكاتب داعية ومجاهدا في بلده ومشاركا للقتال في فلسطين ضد الاحتلال صابرا شجاعا، عاملا بيده وبلسانه وبقلبه حتى قتل صابرا تحت التعذيب.
* ولادته ونشأته:
ولد الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف البدري في بغداد في العام 1930 ونشأ على تربية إسلامية رصينة، وتلمذ على يد علماء بغداد منذ صغره وعلى رأسهم الشيخ امجد الزهاوي والشيخ محمد فؤاد الالوسي والشيخ عبد القادر الخطيب والشيخ شاكر البدري الذين كانوا من ابرز وجوه بغداد العلمية الإسلامية آنذاك.
* اعتلاء المنبر مبكراً:
وبعد اكتشاف مواهبه الخطابية ونبوغه في الفكر واللغة والتاريخ رشحه أستاذه لاعتلاء المنبر الإسلامي كخطيب وإمام جامع وهو دون العشرين من العمر آنذاك في العام 1949 عندما عين في مسجد السور في بغداد، واستمر على حمل أمانة المنبر حتى العام 1954 عندما أدركت السلطة في العهد الملكي نشاطه وتأثيره في الناس فعمدت إلى إبعاده إلى قرية نائية من قرى محافظة ديالى تدعى قرية حديد، فأصبح فيها إماماً وخطيبا لجامع القرية ، وترك فيها اثره وخرّج منها أئمة وخطباء ودعاة صار لهم شأن في المجتمع العراقي.
* الإقامة الجبرية:
وبعد سقوط الحكم الملكي في 14 تموز- يوليو - اصبح إماما وخطيبا في جامع الحاج أمين من منطقة الكرخ في العام 1959، وكان المد الشيوعي قد اخذ مأخذه، فتصدى للشيوعية جهاراً على المنبر فوضع تحت الإقامة الجبرية ولمدة سنة كاملة بين العامين (21/2/1959) وحتى صدور العفو العام عن السياسيين في (4/12/1961) .
* التصدي للحكم العارفي :
تصدى بكل شجاعة لتوجيهات عبد السلام عارف ولسياسته آنذاك، فأُبعد من مدرسة التربية الاسلامية في منطقة الكرخ التي كان مدرسا فيها بعد ان فُصل احد طلابه بسبب تهجمه على سياسات عبد السلام عارف!، فنقل إلى جامع لم يكتمل بناؤه فطلب منه ان يكمل تشييده ليخطب فيه لتعجيزه وتعطيل آلية جهاده ضد الظلم والطغيان.
وبفترة قياسية وبجهود الخيرين استطاع إنجاز بناء جامع عادلة خاتون قرب جسر الصرافية في جانب الرصافة. وعند افتتاح الجامع وهو على المنبر يلقي خطبته فوجئ بدخول عبد السلام عارف رئيس الجمهورية آنذاك ولم يكد يأخذ عارف مكانه حتى بدأ الشيخ البدري بتوجيه كلماته المشهورة إلى عارف دون خوف او تردد: «يا عبد السلام طبق الاسلام. ان تقربت من الاسلام باعا تقربنا إليك ذراعا. يا عبد السلام القومية لا تصلح لنا، وحده الاسلام ملاذنا» وعند الانتهاء من خطبته جلس جانبا ولم يلتفت إلى الرئيس العراقي، فقام الاخير وصافحه قائلا: «أنا اشكرك على هذه الجرأة!» لينقل بعد هذه المجابهة إلى مسجد الخلفاء المغلق بين العامين (1964 - 1966) وذلك لشل نشاطه الاسلامي.
وبعد ضغوط الشارع الاسلامي وتهديده بإقامة الصلاة وإلقاء الخطبة في شارع الجمهورية امام الجامع المغلق «جامع الخلفاء» اضطرت السلطات ان تنقله إلى جامع اسكان غربي بغداد كإمام فقط ومنعته من ممارسة دوره كخطيب. وفي عهد الرئيس عبد الرحمن عارف الذي خلف أخاه بعد مصرعه في تحطم طائرته، قاد مظاهرة جماهيرية للاحتجاج على محاضرة (لنديم البيطار) في احدى قاعات منطقة المنصور في بغداد والذي هرب من الباب الخلفي للقاعة ومعه من أتى به دون ان يكمل محاضرته، ليوقف البدري على اثر ذلك ايام عدة.
* مع المقاومة الفلسطينية:
وبعد نكسة حزيران العام 1967 التحق الشيخ البدري بالمقاومة الفلسطينية دون ان يعلم عائلته بل وضع وصيته عند زميله الدكتور وجيه زين العابدين وأوصاه تسليمها إلى اهله عند استشهاده.
ولكن المجاهدين في فلسطين طلبوا منه العودة إلى العراق وحملوه امانة القضية الفلسطينية لنشرها في بلده وفي بلدان ودول اسلامية وعربية. وخلال أيام معدودة استطاع ان يؤلف وفدا من علماء المسلمين يضم السنة والشيعة وبعض الشخصيات الثقافية والشعبية للطواف حول العالم الإسلامي من اجل استنفار المسلمين ونقل القضية الفلسطينية إلى النطاق الاسلامي تحت عنوان: «من اجل فلسطين رحلة الوفد الاسلامي العراقي» من 27 حزيران - يونيو- وحتى 8 آب - أغسطس- 1967، ضمت الدكتور صالح السامرائي والمحامي داود العطار والدكتور عدنان البكاء من النجف الاشرف والمهندس عبد الغني شندالة والشيخ عبد العزيز البدري والسيد صالح سري والمحامي محمد الالوسي، في رحلة إسلامية إعلامية شملت زيارة اندونيسيا وماليزيا والهند وباكستان وافغانستان وايران وتركيا، لإيصال القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني واحتلال الارض قسراً و ظلماً في سيناء والجولان والضفة الغربية.
* ليلة القبض على البدري:
ظل الشيخ البدري يقارع الحكام بالكلمة، وتضاعف بعد مجيء نظام البكر - صدام إلى الحكم في العراق العام 1968، وكان دائماً يبدأ خطبته بمقدمة اشتهر بها: «أعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات حكامنا»، ويختم خطبته بـ :«اللهم ارزقنا بدولة كريمة تعز بها الإسلام واهله وتذل بها النفاق واهله وتجعلنا من الدعاة إلى طاعتك والاقتداء إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والاخرة وشهادة في سبيلك» .
وعن كيفية القبض عليه يحدثنا أحمد البدري قائلا: بعد مجيء البعثيين إلى الحكم بأيام لم يرق لهم تصدي الشيخ البدري لما ينادون به، فوضعوه تحت المراقبة فأرسل صدام حسين أفراد عصابته لمراقبة منزلنا وتحركات والدي، وكان صدام حينها يرأس دائرة العلاقات مع مدير الامن ناظم كَزار في قصر النهاية، وهو واحد من اكثر الاماكن التي شهدت اشكالا من التعذيب والتنكيل بأحرار وشخصيات وطنية في العراق بعد مجيء نظام البكر - صدام.
وفي مساء احد الايام عاد والدي من المسجد بعد الفراغ من اداء صلاة العشاء بسيارة صديقه عبد الغني شندالة فانقض عليه وعلى زميله أزلام عصابة صدام الذين كانوا متربصين بهما في الازقة والشوارع المحيطة بدارنا فاعتقلوهما، وبعد منتصف الليلة نفسها حضروا مرة اخرى فقاموا بتفتيش الدار بشكل عشوائي وهمجي، وصادروا كل اشرطة خطب الجمعة كما صادروا مخطوطين لكتابين كان قد اكمل تأليفهما معدان للطبع هما كتاب الله الخالد والاسلام حرب على الاشتراكية والرأسمالية.
ويكمل سعد الولد الثاني للشيخ البدري حديث شقيقه عن استشهاد والده وبنبرة فخر واعتزاز، قائلا: عرفنا في ما بعد بأن والدي في احدى زنزانات قصر النهاية (السيئ الصيت) ويستجوب من قبل صدام وناظم كَزار. وبكل فخر أستطيع أن اباهي بوالدي الذي كان شجاعاً بحق وصبوراً مؤمناً حيث ذكر لنا أحد الشهود الذين كانوا معه في الزنزانة قائلاً : «لم أر في حياتي رجلاً بشجاعته داخل المعتقل وهو يعذب ويفقد الوعي ثم يعود إلى رشده فيعذب مرة أخرى وهو يكرر ذكر الله ثم يفقد الوعي تارة اخرى، ويرسل إلى مستشفى الرشيد العسكري لإيقاظه من غيبوبته ثم يعاد إلى التعذيب وهكذا وهو يذكر اسم الله ويقرأ ايات من الذكر الحكيم ويندمج بأدعية مستجابة لنيل الشهادة فينالها في 26/6/1969 وهو تحت التعذيب، ونقل إلى مستشفى الرشيد العسكري حيث تم تغسيله وتكفينه لتغطية جريمتهم ووضعوه في تابوت ورموا التابوت امام دارنا وهرب الافراد الذين اتو به خوفاً من أن ينالهم غضب الناس المحبين للشهيد وانتقامهم.
ويواصل سعد حديثه قائلاً : وزوروا شهادة الوفاة زاعمين ان سبب الوفاة نتيجة لهبوط عمل الكليتين وتوقف الدورة الدموية، وذلك خوفاً من الهيجان الجماهيري نظراً لما كان يملكه الشهيد من شعبية وجماهيرية في الشارع العراقي.
وكانت النية تتجه في دفنه قرب والده في مقبرة سامراء وكان شيوخ عشيرته في استقباله، فخشي النظام من الانتفاضة الجماهيرية في سامراء التي كانت تغلي من هول فقدان عالم اسلامي مجاهد بهذه الطريقة البشعة. إلا ان قوات الامن كانت طوقت المدينة والشوارع المحيطة في بغداد فمنعوا خروج النعش إلى سامراء، فتم دفنه قرب شيخه امجد الزهاوي في مقبرة ابو حنيفة النعمان في الاعظمية في بغداد بعد ان تم كشف جثة الشهيد امام المشيعين من قبل اخيه الداعية محمد توفيق البدري في ساحة الامام ابو حنيفة وعند القبر ليرى الجميع اثار التعذيب والدماء تنزف منه ليطلع المشيعون على وحشية النظام وهم يرددون: «الله اكبر والموت للكفرة» الامر الذي ادى إلى زج العديد منهم في السجون.
* البدري والحكيم ومراجع الشيعة:
وكان الشهيد البدري من العلماء الموحدين والمقربين بين الطوائف الاسلامية وتربطه بعلماء الشيعة علاقات وطيدة في سعي منه لتقريب وجهات النظر فيما يتعلق بين الشيعة والسنة. ففي بغداد كانت تربطه صلات صداقة ومحبة وجهاد بينه وبين الشيخ محمد مهدي الخالصي، وكذلك الشيخ علي الصغير امام جامع براثا في بغداد وعلماء اخرين في المدن الاخرى كما كانت تربطه علاقة حب وتقدير بينه وبين المرجع الديني زعيم الحوزة السيد محسن الحكيم والشهيد السيد مهدي الحكيم، والشهيد اية الله السيد محمد باقر الحكيم والسيد مصطفى جمال الدين والدكتور عدنان البكاء وشخصيات شيعية اخرى في النجف وكربلاء المقدستين.
ويذكر بأنه قد رأس وفداً من اهل السنة وذهب إلى كربلاء والنجف وطلب من علمائها التدخل لإيقاف تنفيذ حكم الإعدام في سيد قطب وعندما التقى بزعيم المرجعية الشيعية السيد محسن الحكيم أبلغه بأنه كان قد ابرق إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر ألا يقدم على إعدام العلماء وسيد قطب من اكبر علماء ومفكري العصر وقبل ايام من لقائه، لأن هذا من واجبه الشرعي.
* داعية التقريب بين المذاهب:
في لقاء سابق قال الشيخ جلال الصغير إمام مسجد براثا في بغداد بأن النظام استهدف الشهيد البدري كونه شخصية اسلامية نزيهة وخطيباً مفوهاً جريئاً في كلمة الحق ومتحمساً لنصرة دين الله تصدى للحكم الدكتاتوري بكل شجاعة وكشف زيفهم وفضحهم متعرضاً باليد واللسان لكل قوى الاستبداد والطغيان. وكان مسلماً صادقاً يحاور ويجاهد في سبيل التقريب بين أهل السنة والشيعة ولعله كان ضحية هذا التقريب من قبل النظام الذي حاول اللعب على مبدأ ( فرق تسد)، واضطهاد العراقيين سنةً وشيعة واقليات، وكان قد اقتيد إلى زنزانات التعذيب بعد ايام من مشاركته في مؤتمر تقريب بين الشيعة والسنة استجابة لدعوة السيد محسن الحكيم والمراجع الشيعة في النجف الأشرف الذين استطاعوا ان يقطعوا شوطاً كبيراً لتعزيز التقارب الأخوي الاسلامي الصادق بين السنة والشيعة، بمعنى ان حضوره كان ملموسا لدى الاوساط الشيعية قبل السنية.
ولعل اصدق دليل على ذلك هو تأثر الشيعة وحزنهم عليه عند استشهاده، وبعد سقوط نظام صدام احتفي بذكرى الشهيد البدري وخاصة مسجد براثا الذي اقام احتفالية كبرى خاصة بمآثره وإنجازاته وسيرته الجهادية واثاره الثقافية والدينية وهي موضع تقدير واعتزاز .
وعن صفته الإسلامية المقربة بين السنة والشيعة يقول نجله الاصغر عمر: ما احوجنا اليه في هذا الظرف وما أحوج العراق إليه في هذه المرحلة الحساسة التي تتقاذف بلدنا قوى الشر والظلام من كل جهة وتحاول زرع الفتنة الطائفية بيننا.
* آثاره ومؤلفاته:
ترك البدري عدداً من الكتب والمؤلفات في موضوعة الإسلام السياسي منها: الإسلام بين العلماء والحكام، حكم الاسلام في الاشتراكية، الاسلام حرب على الاشتراكية والرأسمالية، الاسلام ضامن للحاجات الاساسية لكل فرد، وكتاب الله الخالد القرآن الكريم، والعشرات من الخطب والمواعظ الاسلامية من تلك التي كانت متداولة بين الناس قبل ان يصادر النظام مكتبته الصوتية.
* حياته الاجتماعية:
تزوج الشهيد البدري من ابنة عمه الحاجة مريم حسين التي استشهدت ايضاً في العام 1976 في حادث مؤسف بعد أن انجب منها اربعة اولاد وأربع بنات هم (أحمد، محمود، سعد، عمر، آلاء، زهراء، اسماء، وعلياء). تصفه ابنته علياء، بأنه كان اباً مثالياً ومربياً وفاضلاً عادلاً لا يفرق بين الولد والبنت. كان يحثنا على اداء الصلاة في اوقاتها وخاصة صلاة الفجر وكان يحرص على حضور صلاة الجمعة من كل اسبوع.
فيما تصفه ابنته الكبرى الحاجة الاء عبد العزيز (أم مصطفى) بقولها: اننا فقدنا والدنا ونحن في امس الحاجة اليه والى عطفه وحنانه كأب وقدوة لنا بالرغم من انشغاله في جهاده الاصغر والاكبر، وكنا نفتقده وهو في الحياة فإما أن يؤدي واجبه في الدول الاسلامية أو يكون معتقلاً أو مشغولاً في التدريب او التأليف، وفي اللحظات التي كنا نراه فيها كان يحثنا على حفظ القرآن الكريم ويعدنا لأن نكون دعاة في المجتمع، والحمد لله أنا واخواتي الثلاثة نمارس تدريس قواعد اللغة والتعليم والتربية الاسلامية، ونعمل على تحفيظ القران الكريم وإلقاء المواعظ الدينية.
* حياته السياسية:
عمل في المجال السياسي الاسلامي منذ شبابه، فاستطاع ان يكتسب شعبية واسعة بين صفوف الشباب المسلم بما يمتلكه من قابليات وإمكانيات وقناعات وثقة بالنصر، الأمر الذي جعله قريباً من الطوائف والمذاهب والاحزاب الاسلامية المختلفة، وقد اسس حزب الكتلة الاسلامي بعد ان خرج من الاخوان المسلمين وحزب التحرير وذلك لمواقفه الحادة من الجهاد بوجه الظالمين .
يذكر نجله محمد بأن احد افراد الأمن قد اخبره في العام 2000 عندما كان يبحث ضمن فريق مشترك من الأمن والمخابرات العامة والاثار عن قبر احد ابناء المتوكل في المقبرة الاعظمية وبجوار قبر الشهيد البدري، انهم عندما حفروا للبحث فتح قبر الشهيد وانكشف الغطاء عن جثته الطاهرة فضغط على جسد فرآه طرياً وكأنه دفن تواً بعد 41 عاماً من استشهاده ودفنه، فدخل الرعب والخوف في قلوبهم فأعادوا التراب إلى مكانه وفروا هاربين.