مذكـرات مغتـرب
"بَسْ دقيقة"
كنت أقف في دوري على شباك التذاكرلأشتري
بطاقة سفر في الحافلة إلى مدينة تبعد حوالي 330 كم، وكانت أماميسيدة
ستينية قد وصلت إلى شباك التذاكر وطال حديثها مع الموظفة التي قالتلها في
النهاية: الناس ينتظرون، أرجوكِ تنحّي جانباً. فابتعدت المرأةخطوة واحدة
لتفسح لي المجال، وقبل أن أشتري بطاقتي سألت الموظفة عنالمشكلة،
فقالت لي بأن هذه المرأة معها ثمن بطاقة السفر وليس معها يوروواحد قيمة
بطاقة دخول المحطة، وتريد أن تنتظر الحافلة خارج المحطة وهذاممنوع.
قلتُ لها: هذا يورو وأعطها البطاقة. وتراجعتُ قليلاً وأعطيتُالسيدة
مجالاً لتعود إلى دورها بعد أن نادتها الموظفة مجدداً...0
اشترت السيدة بطاقتها ووقفت جانباًوكأنها
تنتظرني، فتوقعت أنها تريد أن تشكرني، إلا أنها لم تفعل، بلانتظرتْ
لتطمئن إلى أنني اشتريت بطاقتي وسأتوجه إلى ساحة الانطلاق، فقالتلي بصيغة
الأمر: احمل هذه... وأشارت إلىحقيبتها...0
كان الأمر غريباً جداً بالنسبة لهؤلاءالناس
الذين يتعاملون بلباقة ليس لها مثيل. بدون تفكير حملت لها حقيبتها واتجهنا
سوية إلى الحافلة، ومن الطبيعي أن يكون مقعدي بجانبها لأنها كانت قبلي
تماماً في الدور...0
حاولت أن أجلس من جهة النافذة لأستمتع بمنظر
تساقط الثلج الذي بدأ منذ ساعة وأقسم بأن يمحو جميع ألوان الطبيعة معلناً
بصمته الشديد: أنا الذي آتي لكم بالخير وأنا من يحق له السيادةالآن! لكن
السيدة منعتني و جلستْ هي من جهة النافذة دون أن تنطق بحرف،فرحتُ أنظر
أمامي ولا أعيرها اهتماماً، إلى أن التفتتْ إلي تنظر في وجهي وتحدق فيه،
وطالت التفاتتها دون أن تنطق ببنت شفة وأنا أنظر أمامي، حتى إنني بدأت
أتضايق من نظراتها التي لا أراها لكنني أشعر بها، فالتفتُ إليها...0
عندها تبسمتْ قائلة: كنت أختبر مدى صبرك وتحملك...0
صبري على ماذا؟
على قلة ذوقي. أعرفُ تماماً بماذا كنتَ تفكر...0
لا أظنك تعرفين، وليس مهماً أنتعرفي...0
حسناً، سأقول لكَ لاحقاً، لكن بالي مشغول كيف سأرد لكَ الدين...0
الأمر لا يستحق، لا تشغلي بالك...0
عندي حاجة سأبيعها الآن وسأرد لكَ اليورو، فهل تشتريها أم أعرضها على غيرك؟
هل تريدين أن أشتريها قبل أن أعرف ماهي؟
إنها حكمة. أعطني يورو واحداً لأعطيك الحكمة...0
وهل ستعيدين لي اليورو إن لم تعجبني الحكمة؟
لا، فالكلام بعد أن تسمعه لا أستطيع استرجاعه، ثم إن اليورو الواحد يلزمني لأنني أريد أن أرد بهِدَيني...0
أخرجتُ اليورو من جيبي ووضعته في يديهاوأنا أنظر
إلى تضاريس وجهها. لا زالت عيناها جميلتين تلمعان كبريق عين يشابة في
مقتبل العمر، وأنفها الدقيق مع عينيها يخبرون عن ذكاء ثعلبي. مظهرها يدل على أنها سيدة متعلمة،
لكنني لن أسألها عن شيء، أنا على يقينأنها
ستحدثني عن نفسها فرحلتنا لا زالت في بدايتها...0
أغلقت أصابعها على هذه القطعة النقديةالتي فرحت
بها كما يفرح الأطفال عندما نعطيهم بعض النقود وقالت: أنا الآن متقاعدة،
كنت أعمل مدرّسة لمادة الفلسفة، جئت من مدينتي لأرافق إحدىصديقاتي
إلى المطار. أنفقتُ كل ما كان معي وتركتُ ما يكفي لأعود إلىبيتي، إلا
أن سائق التاكسي أحرجني وأخذ مني يورو واحد زيادة، فقلت في نفسي سأنتظر
الحافلة خارج المحطة، ولم أكن أدري أنه ممنوع. أحببتُ أن أشكرك بطريقة
أخرى بعدما رأيت شهامتك، حيث دفعت عني دون أن أطلب منك. الموضوع ليس مادياً.
ستقول لي بأن المبلغ بسيط، سأقول لكَ أنت سارعت بفعل الخير ودونما تفكير...0
قاطعتُ المرأة مبتسماً: أتوقع بأنك ستحكي لي
قصة حياتك، لكن أين البضاعة التي اشتريتُها منكِ؟ أين الحكمة؟
"بَسْدقيقة".
سأنتظردقيقة...0
لا، لا..
لا تنتظر. "بَسْ دقيقة"... هذه هي الحكمة...0
ما فهمت شيئاً...0
لعلك تعتقد أنك تعرضتَ لعمليةاحتيال؟
ربما...0
سأشرح لكَ: "بس دقيقة"، لا تنسَ هذه الكلمة.
في كل أمر تريد أن تتخذ فيه قراراً، عندما تفكر بهِ وعندما تصلإلى لحظة
اتخاذ القرار أعطِ نفسك دقيقة إضافية، ستين ثانية. هل تعلم كممن
المعلومات يستطيع دماغك أن يعالج خلال ستين ثانية؟ في هذه الدقيقةالتي
ستمنحها لنفسك قبل إصدار قرارك قد تتغير أمور كثيرة، ولكن بشرط...0
وما هوالشرط؟
أن تتجرد عن نفسك، وتُفرغ في دماغكوفي قلبك
جميع القيم الإنسانية والمثل الأخلاقية دفعة واحدة، وتعالجهامعالجة
موضوعية ودون تحيز، فمثلاً: إن كنت قد قررت بأنك صاحب حق وأنالآخر قد
ظلمك فخلال هذه الدقيقة وعندما تتجرد عن نفسك ربما تكتشف بأنالطرف
الآخر لديه حق أيضاً، أو جزء منه، وعندها قد تغير قرارك تجاهه. إنكنت نويت
أن تعاقب شخصاً ما فإنك خلال هذه الدقيقة بإمكانك أن تجد لهعذراً
فتخفف عنه العقوبة أو تمتنع عن معاقبته وتسامحه نهائياً. دقيقةواحدة
بإمكانها أن تجعلك تعدل عن اتخاذ خطوة مصيرية في حياتك لطالمااعتقدت
أنها هي الخطوة السليمة، في حين أنها قد تكون كارثة. دقيقة واحدةربما
تجعلك أكثر تمسكاً بإنسانيتك وأكثر بعداً عن هواك. دقيقة واحدة قدتغير مجرى
حياتك وحياة غيرك، وإن كنت من المسؤولين فإنها قد تغير مجرىحياة قوم
بأكملهم... هل تعلم أن كل ما شرحته لكَ عن الدقيقة الواحدة لم يستغرق
أكثر من دقيقة واحدة؟
صحيح، وأنا قبلتُ برحابة صدر هذها لصفقة وحلال عليكِ اليورو...0
تفضل، أنا الآن أرد لكَ الدين وأعيدلكَ ما
دفعته عني عند شباك التذاكر. والآن أشكرك كل الشكر على ما فعلته لأجلي...0
أعطتني اليورو. تبسمتُ في وجهها واستغرقت
ابتسامتي أكثر من دقيقة، لأنتبه إلى نفسي وهي تأخذ رأسي بيدها وتقبل
جبيني قائلة: هل تعلم أنه كان بالإمكان أن أنتظر ساعات دون حل لمشكلتي،
فالآخرون لم يكونوا ليدروا ما هي مشكلتي، وأنا ما كنتُ لأستطيع أن أطلب واحد يورو من أحد...0
حسناً، وماذا ستبيعينني لو أعطيتك مئة يورو؟
سأعتبره مهراً وسأقبل بكزوجاً...0
علتْ ضحكتُنا في الحافلة وأنا أُمثـِّلُبأنني أريد
النهوض ومغادرة مقعدي وهي تمسك بيدي قائلة: اجلس،
فزوجي متمسكٌ بيَّ وليس له مزاج أن يموت قريباً!
وأنا أقول لها: "بس
دقيقة"، "بس